قال: (والملحظ الثاني) وهو مهم جداً؛ لأن كثيراً من الناس أخطئوا فيه (أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق سبحانه وتعالى دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار)، فكيف يكون الخوف متعلقاً بذاته تعالى، وكيف يكون الرجاء متعلقاً بذاته تعالى؟
يقول: فأعلى الخوف خوف العبد من البعد عن الله ومن أن يسخط عليه الله تبارك وتعالى ومن الحجاب بينه وبين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين وصلت بهم قوة الإيمان ودرجة اليقين إلى هذه الحالة من معرفة الله والأنس بالله تعالى ولذة مناجاة الله، ولذة ذكر الله كلما قعد المرء منهم أو قام أو راح أو غدا، فهؤلاء الناس أعظم ما يعذبون به أن يحال بينهم وبين ذكر الله، وتنقطع ألسنتهم عن ذكر الله، فيذهب ما عندهم من يقين وطمأنينة ولذة ونعيم، وهذا الذي يقصده بعضهم بقوله: (إنه ليمر بي حالات فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم).
يقول: (كما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم في النار في قوله: (( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ))[المطففين:15-16]) فأول ما عوقبوا به أنهم حجبوا عن رؤية الله تعالى، وهذا عذاب عظيم، ثم عقب على ذلك بأنهم سوف يدخلون النار ويعذبون بالعذاب الذي يخافه كثير من الناس، وهذا الذي ينبغي أن يكون: أن يخاف العبد من النار، والأولى ألا ينسى أن العذاب الأليم والخسارة الكبرى في عدم رؤيته تبارك وتعالى والتنعم بذلك، ويدل على ذلك أن أكبر نعيم في الجنة هو رؤية الله تعالى، وإذا كان هذا أكبر نعيم فذاك هو أكبر عذاب وعقوبة، والعباد إذا سألوا الله الجنة، وكذلك رسل الله الكرام، أو عملوا لأجل الجنة، أو عبدوا الله تعالى لأجل الجنة؛ فإنما يريدون من جملة ما يريدون أشرف ما فيها، وأعلى ما فيها وأفضل ما فيها وهو رؤية الله تعالى.
ولا منافاة بين من يعمل يريد الجنة، وبين من يعمل لذات الله والنظر إلى وجهه الكريم؛ لأن أعظم وأشرف نعيم الجنة هو هذا النعيم.
يقول: (وبقي هاهنا أمر آخر، وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون ولا يطلبونه، وهذا أيضاً غلط، والنصوص الدالة على خلافه كثيرة جداً ظاهرة، وهو أيضاً مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم وكراهة ما ينافرهم)، وهذا كائن في الخليقة حتى في الحيوان وفي النبات، فقد جعل الله فطرة الخلائق تميل إلى ما يلائمها وما يناسبها وتتلذذ به وترتاح إليه، وجعلها تنفر مما يضايقها ويزعجها ويؤلمها ولا يلائمها، وهذه الفطرة هي مغروزة في نفس الإنسان؛ فلذلك يأتي الثواب ويأتي العقاب، ويربط الله تعالى طاعته بالثواب ومعصيته بالعقاب، فالإنسان إذا كان يحب الجنة والحور العين والقصور وكل ما في الجنة من النعيم فعليه بطاعة الله تعالى، وإذا كان يكره النار وما فيها فعليه أن يجتنب ما حرم الله.